استفاقت الأمة العربية على تراث هائل من المخطوطات العربية، تحمل فكرها في ماضيها البعيد، ولكي تقنع الآخر بمشاركتها في بناء حضارة عربية أثرت في مجمل الحضارات، كان عليها أن تخرج تلك الكنوز الدفينة في بطون المخطوطات المنتشرة في المكتبات الوطنية، والأوربية، والشخصية، وغيرها. فأنشأت لذلك مجمل الدول العربية مراكز لحفظ المخطوطات ومن ثم تحقيقها ونشرها، بل إن بعض الجامعات جعلت في برنامج التخرج شرطا لا يمكن تجاوزه، ألا وهو تحقيق مخطوطة في تخصص المتخرج. ثم ظهر في بعضها هيآت علمية أنشأت سلاسل متخصصة في نشر التراث، كما هو الشأن في سلسلة: ذخائر التراث في مصر العربية، والتراث العربي في الكويت، ومطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، وكلها أصدرت مخطوطات نادرة حققها علماء متخصصون في مجالاتهم، من مثل المرحوم عبد السلام هارون، وإحسان عباس، وناصر الدين الأسد، وغيرهم.
وأسوة بتلك الدول العربية جاء الدور علينا نحن أبناء بلاد شنقيط، وخاصة وأننا نمتلك تراثا عربيا ثرا، لم تصل إليه أيادي تلك الكوكبة العالمة من العلماء، فالمكتبات الموريتانية غاصة بالمخطوطات، منها ما هو مكتشف ومنها ما هو مجهول، ينتظر من ينتشله، وقد وقفت على كثير منها، وألفت حوله كتابنا معجم أسماء المؤلفات الموريتانية، وكتبت عن بعض منها في مقالات خارجية وداخلية. واليوم وقد أصبحت موريتانيا واجهة للأمة الإسلامية من خلال انواكشوط عاصمة للثقافة الإسلامية، فإنه علينا أن نشيد بهذا التراث، لا بل نعمد إلى إنشاء معهد لتحقيق تراث هذا البلد، من كتب متخصصة، واختصارات، ودواوين، وتراث علمي لأبناء العرب والمسلمين، فقد يكون تشجيع مثل هذه الأفكار ودعمها من المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم من أوكد ما يطرح من المشاريع التي تثبت في الأرض وينتفع بها في مستقبل هذه الأمة، وتبقى تراثا لأجيال المستقبل. فهذه المنشأة يختار لها أبناء هذا البلد المتخصصين في تحقيق النصوص، ويجمعون خيرة الكتب النافعة، ويبدأون تحقيقها وإخراجها لجمهور قراء البلد، وغيرهم ممن يعشق تراث هذه الأمة.
إن هذه الدعوة قد تجد العون في هذه السنة الثقافية التي يجب أن تتكثف الجهود من أجل الاستفادة منها، إذ قد لا تتكرر قريبا بسبب وفرة الدول التي تنتظر دورها لتصبح عاصمة للثقافة الإسلامية، ثم إنها قد تجد تشجيعا آخر فيما ينتظر من أن تكون انواكشوط عاصمة لتراث الأمة العربية من خلال المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التي تحضر هي الأخرى لنفس النشاط في السنوات القادمة.
إن مثل هذه الفرص يجب أن تستغل، من أجل تطوير وتثمين مخطوطاتنا، ووضعها أمام الجمهور المثقف، وأمام العالم ككل في تصديق ما هو معلوم عن ثقافة بلاد شنقيط، وعلمائها المشتهرين في أصقاع العالم بالحفظ والتأليف.
إنه يتعين علينا ألا تنتهي هذه السنة الثقافية إلا وقد رأى معهد تحقيق المخطوطات النور، وأصبح فكرة مادية ملموسة، لا بل يقدم بعض النصوص المحققة كإثبات لما نوهنا به من فكر علماء بلاد شنقيط. ولا أعتقد أن الفكرة صعبة المنال إذ أن مجمل ما تحتاجه متوفر، ولا يبقى إلا وضع حجرها الأساس، واختيار العلماء المتخصصين في علم تحقيق النصوص، وهم كثر والحمد لله.
وفي المجمل لا نجحد مجموعة من الأعمال الطريفة لبعض أقلام علماء هذا البلد، فقد حققت نصوص عدة في شتى العلوم، من تفسير، وأدب ولغة، وأنساب، وغيرها، إلا أن الكثير ما زال على الرفوف، ولا ينتشل من التردي إلا بتطبيق عاجل لما تحدثنا عنه، فنحن واثقون أن ما سطرناه سيرى النور في القريب العاجل، لأنه في صالح البلد وتراثه العريق.
إسلم بن السبتي