في اليوم الذي بدأ فيه الغزو الروسي لأوكرانيا، أذهل عميل سابق بجهاز الاستخبارات السوفياتي (كي جي بي) سيرجي جيرنوف المشاهدين ولم يصدقه أحد عندما قال إن بإمكان الروس استعمال الأسلحة النووية التكتيكية في الحرب، إلا أن إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد 3 أيام من ذلك وضع ترسانته الذرية في حالة تأهب جعل من يشعرون بالقلق من هذا الصراع -الذي لا أحد يعرف أين يمكن أن يقود العالم- يستمعون لهذا الرجل باهتمام.
ولذلك تستعرض صحيفة لوفيغارو (Le Figaro) الفرنسية -في مقابلة أجراها غيوم روكيت مع عميل الاستخبارات السابق سيرجي جيرنوف- أهم مقتطفات من كتابه الجديد "التروس" (L’Engrenage)، الذي قال فيه إن بوتين رجل مخيف وقادر على الأسوأ، خاصة بعد أن خسر إستراتيجيا هذه الحرب التي كان يظن أنه سيحسمها في غضون أسبوع، وذلك بمهاجمته دولة حليفة لروسيا منذ زمن بعيد، ودخوله في حرب شاملة مع 45 مليون مواطن يدافعون عن أراضيهم وخيارات حياتهم بشجاعة لا تصدق.
كان بوتين مخطئا على طول الخط -كما يقول جيرنوف- في حق الأوكرانيين وفي حق رئيسهم فولوديمير زيلينسكي، وفي حق الناطقين بالروسية، وفي حق أوروبا، وفي حق حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وفي تقديره لرد فعل المجتمع الدولي، وحتى في تقديره للعواقب الإستراتيجية لهذا الغزو على روسيا خلال المديين المتوسط والبعيد.
عزلة لم يسبق لها مثيل
وعند السؤال عن موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون -الذي اختار الحفاظ على الحوار مع موسكو- قال عميل الاستخبارات السوفياتية السابق إن هذا الموقف غير واضح، وإن المسؤولين في بولندا وإستونيا انتقدوه بعنف، خاصة أنهم يرون بلدانهم التي كانت تحت "نير" الاتحاد السوفياتي السابق قد تكون الأهداف التالية لبوتين إذا سمح له بذلك، ومنطقهم في ذلك بسيط وهو أن بوتين أثبت "أنه مجرم حرب، وبالتالي لا أحد يجري اتفاقا مع الشيطان".
أما بالنسبة للرئيس الأميركي جو بايدن -كما يقول البولنديون والإستونيون- فهو يشجعنا على حمل السلاح، ولكنه يبقى بعيدا عن ساحة المعركة، إلا أنه مع ذلك من الضروري الحوار مع الشخص الذي يمكن أن يثير حربا نووية، كما يقول الكتاب.
وعند السؤال عن أول لقاء له مع بوتين، قال سيرجي جيرنوف إن ذلك كان عام 1980، مضيفا "كنا معا في لجنة أمن الدولة (الذراع المسلحة للحزب الشيوعي)، دخلنا في العام نفسه معهد أندروبوف (مدرسة النخبة التي تعد الجواسيس)، فدمجت في الإدارة "س" الأرقى بالنسبة للكي جي بي، في حين حُكم على بوتين بأنه غير صالح للجاسوسية، لعدم قدرته على تقدير عواقب قراراته بشكل صحيح، وهو أمر خطير للغاية بالنسبة له وللخدمة، وأعيد على الفور إلى لينينغراد".
وعند سؤاله: هل بوتين اليوم مختلف تماما عن ذلك الذي عرفته؟ رد المؤلف "نعم ولا، فهو -من ناحية- يبجل الزعيم السوفياتي السابق جوزيف ستالين، ولكنه من ناحية أخرى يحاول إعادة بناء روسيا الإمبراطورية العظيمة التي دمرها ستالين وكي جي بي الذي كان بوتين جزءا منه لمدة 30 عاما تقريبا".
ويقول جيرنوف إن بوتين معزول تماما في الكرملين إلى حد لم يسبق له مثيل، خاصة منذ طلاقه من زوجته لودميلا عام 2013، إذ لم يعد يطيق أدنى انتقاد، بل إنه أهان علنا رئيس مخابراته سيرغي ناريتشين، ولم يعلم أقرب مقربيه وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس أركانه الجنرال غيراسيموف قراره إعلان حالة التأهب النووية إلا على شاشة التلفزيون، رغم أنهما من ينبغي أن يصدرا الأمر بإطلاق السلاح النووي الذي يمكن أن يمنحه لهما بوتين في يوم من الأيام.
إن بوتين -كما يقول جيرنوف- عزل نفسه تدريجيا عن الواقع، وبنى عالما متوازيا افتراضيا، "أنا شخصيا أعتقد أنه انتهى به الأمر إلى الإيمان بالأكاذيب التي يرويها عن الأوكرانيين النازيين، والجيش الروسي الذي كان يرى أنه سينتصر في جميع المعارك، وما إلى ذلك، وهو مهتم بالبصمة التي سيتركها في التاريخ، ومنذ 21 فبراير/شباط الماضي كان كل قرار يتخذه أسوأ من سابقه، وهذا المنطق لا يمكن أن يقوده إلا إلى كارثة. إنه مخيف، وهو قادر على الأسوأ، هذا ما كان يخشى مدربوه في كي جي بي عندما رفضوه؛ كانوا على حق".
فوضى النظام العالمي
ورغم كل ذلك، لا يرى سيرجي جيرنوف أن الحرب الباردة ستعود، ولكنه يخشى من إرهاصات ولادة فوضى في النظام العالمي، ولعل بوتين نفسه مثال لها، فهو يرى النازيين في كل مكان لكنه يتحدث الألمانية ويتاجر مع برلين، وهو يبدو في الفترة الأخيرة أقل هجومية، وإن كان يرفع التهديد النووي الذي يمكن أن يكون مجرد تكتيك، لأنه يريد إعادة دمج روسيا العظيمة في حفل الأمم مع ممارسة ضغوط قوية على بقية العالم.
وعزا جيرنوف هذه الفترة غير المستقرة التي يدخل فيها العالم إلى الظروف التي انهار فيها الاتحاد السوفياتي، التي بدت الشعوب سعيدة بها، ولكن الجيش والمخابرات والمجمع الصناعي العسكري القوي للغاية لم يكونوا كذلك، لما فقدته هذه الجهات من ميزانيات وقوى عاملة وسلطات.
ويختتم جيرنوف بالقول: الغريب في هذا السياق أن الناتو لم يمت، بل إنه تطور واندمجت فيه بلدان جديدة، غير أن بوتين بوصفه عنصر كي جي بي سابقا ما زال يشكل فزاعة للعالم الحر، ومع ما يثيره من خوف فإنه لم يثن فنلندا والسويد عن (التفكير في) الالتحاق بالناتو رغم أن ذلك يستفزه كثيرا.
المصدر : لوفيغارو